الإنسان مفطورٌ على الطمع، تراه أبدًا كتلميذ المدرسة؛ لّما بلغ فصلاً كان همّه أن يصعد إلى الذي فوقه. ولكن التلميذ يسعى إلى غاية معروفة إذا بلغها وقف عندها، والمرء في الدنيا يسعى إلى شيءٍ لا يبلغه أبدًا؛ لأنه لا يسعى إليه ليقف عنده ويقنع به بل ليجاوزه راكضًا يريد غايةً هي صورةٌ في ذهنه ما لها في الأرض من وجود!
وقد يُعطى المال الوفير والجاه الواسع والصحة والأهل والولد، ثمّ تجده يشكو فراغًا في النّفْس وهمًّا خفيًّا في القلب لا يعرف له سببًا، يحسّ أنّ شيئًا ينقصه ولا يدري ما هو، فما الذي ينقصه فهو يبتغي استكماله؟
لقد أجاب على ذلك رجلٌ واحد؛ رجلٌ بلغ في هذه الدنيا أعلى مرتبة يطمح إليها رجل: مرتبة الحاكم المطلق في ربع الأرض فيما بين فرنسا والصين، وكان له مع هذا السلطان الصحة والعلم والشّرف، هو عمر بن عبد العزيز الذي قال: “إنّ لي نفسًا توّاقة، ما أُعطيت شيئًا إلاّ تاقت إلى ما هو أكبر: تمنّت الإمارة، فلمّا أعطيَتها تاقت إلى الخلافة، فلمّا بلغتها تاقت إلى الجنّة”!
هذا ما تطلبه كلّ نفس؛ إنّها تطلب العودة إلى موطنها الأوّل، وهذا ما تحسّ الرغبة الخفيّة أبدًا فيه والحنين إليه والفراغ الموحِش إن لم تجده.
فهل اقتربتُ من هذه الغاية بعدما سرت إليها على طريق العمر اثنتين وخمسين سنة؟
يا أسفي! لقد مضى أكثر العمر وما ادّخرت من الصالحات، ولقد دنا السّفر وما تزوّدتُ ولا استعددت، ولقد قَرُبَ الحصاد وما حرثت ولا زرعت، وسمعت المواعظ ورأيت العِبَر فما اتّعظت ولا اعتبرت، وآن أوانُ التوبة فأجّلت وسوّفت