ويحدثنا ابن القيم عن نوع آخر من مخلوقات الله ، ويبين لنا هداية الله لها في معاشها فيقول :
" وهذا النمل من أهدى الحيوانات ، وهدايتها من أعجب شيء ، فإن النملة الصغيرة تخرج من بيتها وتطلب قوتها ، وإن بعدت عليها الطريق ، فإذا ظفرت به حملته وساقته في طرق معوجة بعيدة ذات صعود وهبوط في غاية من التوعر حتى تصل إلى بيوتها ، فتخزن فيها أقواتها في وقت الإمكان .
فإذا خزنتها عمدت إلى ما ينبت منها ففلقته فلقتين ؛ لئلا ينبت فإن كان ينبت مع فلقه باثنتين فلقته بأربعة ، فإذا أصابه بلل وخافت عليه العفن والفساد انتظرت به يوماً ذا شمس فخرجت به ، فنشرته على أبواب بيوتها ، ثم أعادته إليها ، ولا تتغذى منها نملة مما جمعه غيرها .
ويكفي في هداية النمل ما حكاه الله – سبحانه – في القرآن عن النملة التي سمع سليمان كلامها وخطابها لأصحابها بقولها : ( يا أيَّها النَّمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنَّكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون ) [ النمل : 18 ] ، فاستفتحت خطابها بالنداء الذي يسمعه من خاطبته ، ثم أتت بالاسم المبهم ، ثم أتبعته بما يثبته من اسم الجنس إرادة العموم ، ثم أمرتهم بأن يدخلوا مساكنهم فيتحصنون من العسكر ، ثم أخبرت عن سبب هذا الدخول ، وهو خشية أن يصيبهم مضرّة الجيش ، فيحطمهم سليمان وجنوده ، ثم اعتذرت عن نبي الله وجنوده بأنهم لا يشعرون بذلك ، وهذا من أعجب الهداية .
وتأمل كيف عظم الله – سبحانه – شأن النمل بقوله : ( وحشر لسليمان جنوده من الجنّ والإنس والطَّير فهم يوزعون ) [ النمل : 17 ] ، ثم قال : ( حتَّى إذا أتوا على واد النَّمل ) [ النمل : 18 ] ، فأخبر أنهم بأجمعهم مروا على ذلك الوادي ، ودل على أن ذلك الوادي معروفٌ بالنمل كوادي السباع ونحوه ، ثم أخبر بما دل على شدة فطنة هذه النملة ودقة معرفتها حيث أمرتهم أن يدخلوا مساكنهم المختصة بهم ، فقد عرفت هي والنمل أن لكل طائفة منها مسكناً لا يدخل عليهم فيه سواهم ، ثم قالت : ( لا يحطمنَّكم سليمان وجنوده ) [ النمل : 18 ] ، فجمعت بين اسمه وعينه ، وعرفته بهما ، وعرفت جنوده وقائدهم ، ثم قالت : ( وهم لا يشعرون ) [ النمل : 18 ] فكأنها جمعت بين الاعتذار عن مضرة الجيش بكونهم لا يشعرون وبين لومة أمة النمل حيث لم يأخذوا حذرهم ، ويدخلوا مساكنهم ، ولذلك تبسم نبي الله ضاحكاً من قولها ، وإنه لموضع تعجب وتبسم .
وقد روى الزهري عن عبد الله بن عبد الله بن عيينة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (( نهى عن قتل النمل والنحلة والهدهد والصرد )) (1) ، وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( نزل نبي من الأنبياء تحت شجرة ، فلدغته نملة ، فأمر بجهازه فأخرج ، وأمر بقرية النمل فأحرقت ، فأوحى الله إليه : أن قرصتْك نملة أحرقت أمة من الأمم تُسبحُ ! فهلا نملة واحدة !) . (2)
وروى عوف بن أبي جميلة عن قسامة بن زهير ، قال : قال أبو موسى الأشعري : إن لكل شيء سادة حتى للنمل سادة .
ومن عجيب هدايتها أنها تعرف ربها بأنه فوق سمواته على عرشه ، كما رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد من حديث أبي هريرة يرفعه ، قال : ( خرج نبيٌّ من الأنبياء بالناس يَسْتَسْقُون ، فإذا هم بنملة رافعة قَوائِمها إلى السماء تدعو مُستلقية على ظهرها ، فقال : ( ارجعوا فقد كفيتم أو سقيتم بغيركم ) ولِهذا الأثر عدة طرق ، ورواه الطحاوي في التهذيب وغيره .
وفي مسند الإمام أحمد : ( أن سليمان بن داود خرج يستسقي ، فرأى نملة مُستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء وهي تقولُ : اللهم إنا خلق من خلقك ، ليس بنا غنى عن سقياك ورزقك ، فإما أن تُسقينا وترزقنا ، وإما أن تهلكنا ، فقال : ارجعوا فقد سُقيتُمْ بدعوة غَيركم ) .
ولقد حُدّثت أن نملة خرجت من بيتها ، فصادفت شق جرادة ، فحاولت أن تحمله فلم تطق ، فذهبت وجاءت معها بأعوان يحملنه معها ، قال : فرفعتُ ذلك من الأرض ، فطافت في مكانه فلم تجده ، فانصرفوا وتركوها .
قال : فوضعته ، فعادت تحاول حمله فلم تقدر ، فذهبت ، وجاءت بهم ، فرفعته ، فطافت فلم تجده فانصرفوا ، قال : فعلت ذلك مراراً ، فلما كان في المرة الأخرى استدار النمل حلقة ووضعوها في وسطها ، وقطعوها عضواً عضواً ، قال شيخنا : وقد حكيت له هذه الحكاية فقال : هذا النمل فطرها الله – سبحانه – على قبح الكذب وعقوبة الكذاب .
والنمل من أحرص الحيوانات ، ويضرب بحرصه المثل ، ويذكر أن سليمان صلوات الله وسلامه عليه لما رأى حرص النملة وشدة ادخارها للغذاء استحضر نملة ، وسألها : كم تأكل النملة من الطعام كل سنة ؟ فقالت : ثلاث حبات من الحنطة ، فأمر بإلقائها في قارورة ، وسد فم القارورة ، وجعل معها ثلاث حبات حنطة ، وتركها سنة بعد ما قالت : ثم أمر بفتح القارورة عند فراغ السنة ، فوجد حبة ونصف حبة ، فقال : أين زعمك ؟ أنت زعمت أن قوتك كل سنة ثلاث حبات .فقالت : نعم ، ولكن لما رأيتك مشغولاً بمصالح بني جنسك حسبت الذي بقي من عمري فوجدته أكثر من المدة المضروبة ، فاقتصرت على نصف القوت ، واستبقيت نصفه استبقاء لنفسي ، فعجب سليمان من شدة حرصها ، وهذا من أعجب الهداية والعطية .
ومن حرصها أنها تكدّ طول الصيف ، وتجمع للشتاء علماً منها بإعواز الطلب في الشتاء ، وتَعَذّرِ الكسب فيه ، وهي على ضعفها شديدة القوى ، فإنها تحمل أضعاف أضعاف وزنها ، وتجره إلى بيتها .
وليس للنمل قائد ورئيس يدبرها كما يكون للنحل إلا أن رائداً يطلب الرزق ، فإذا وقف عليه أخبر أصحابه فيخرجن مجتمعات ، وكل نملة تجتهد في صلاح العامة منها غير مختلسة من الحب شيئاً لنفسها دون صواحباتها .
ومن عجيب أمرها أن الرجل إذا أراد أن يحترز من النمل لا يسقط في عسل أو نحوه ، فإنه يحفر حفيرة ويجعل حولها ماء أو يتخذ إناء كبيراً ، ويملؤه ماء ، ثم يضع فيه ذلك الشيء ، فيأتي الذي يطيف به فلا يقدر عليه ، فيتسلق في الحائط ، ويمشي على السقف إلى أن يحاذي ذلك الشيء ، فتلقي نفسها عليه ، وجربنا نحن ذلك .
وأحمى صانع مرة طوقاً بالنار ورماه على الأرض ليبرد . واتفق أن اشتمل الطوق على نمل ، فتوجه في الجهات ليخرج ، فلحقه وهج النار ، فلزم المركز ووسط الطوق ، وكان ذلك مركزاً له ، وهو أبعد مكان من المحيط " . (3)
النمل الأبيض غذاؤه ومساكنه :
يحدثنا الأستاذ يوسف عز الدين : عما كشف العلم من أسرار هذا الكائن : " ومن الغرائز التي وهبها الله لمثل هذه الكائنات الضئيلة ما هو مذهل ، يجعل كل ذي عقل من البشر يخرّ ساجداً للخالق العظيم .
على سبيل المثال ما نراه في مستعمرة نوع من الحشرات نطلق عليه اسم ( النمل الأبيض ) ، تعيش هذه الحشرات أيضاً في مستعمرات ، إذا زاد أفراد المستعمرة عن الحد المعقول بالنسبة لكمية الغذاء المتاحة ، فإنّ هذه الحشرات تدرك هذه الحقيقة عن طريق الغريزة ، فتبدأ الأفراد في التهام عدد كبير من البيض ، وبذلك يسهم في حلّ مشكلة زيادة أفراد المستعمرة ومشكلة الغذاء ، إذ أن التهام البيض يعتبر تغذية ، وفي الوقت نفسه يقلل من عدد الذرية .
إنّ هذه الحشرات لا تدرك لماذا تفعل ذلك ، ولكنّها النفحة الإلهية التي تلهمها لعمل ما لا يمكن أن تدركه من الأشياء التي تعود عليها بالفائدة وتجنبها الفناء .هذه الحشرات نفسها تتغذى على الأخشاب وتلتهمها بشراهة ، إذ في بعض الأماكن الموبوءة بها قد يتناول أفراد الأسرة طعامهم على منضدة الطعام ، ثم يذهبون في الصباح لتناول إفطارهم ، فيجدون تلك المنضدة قد تقوضت أركانها ، وانهارت في ليلة واحدة .
وفي بعض جهات استراليا الموبوءة بتلك الحشرات المدمرة قد يسأل أحد السائحين وهو ناظر من نافذة القطار عن اسم القرية التي رآها على مدى البصر ، فيعتريه الذهول عندما يخبرونه أن تلك القرية لا تضم آدميين ، ولكنها المساكن التي أقامها النمل الأبيض ليعيش بها .
هذه المساكن ترتفع عن سطح الأرض عدة أمتار وتصنعها الحشرات من مادة غريبة ، هي خليط من لعابها وبعض المواد الأخرى ، وهي أقوى من الإسمنت المسلح ، ولا يمكن أن تخترقها الحشرات أو يتسرب إليها الماء من خلال جدرانها ، وبداخلها أنفاق متشعبة يعيش فيها النمل الأبيض .
وتستخدم هذه الحشرات للتخابر عن بعد نوعاً من الشيفرة تشبه شيفرة التلغراف ، إذ تدق على جدران النفق برأسها عدة دقات فيفهم باقي النمل ما تريد عن طريق تلك الدقات الشفرية ، تفعل ذلك دون أن تدري ماذا تفعل ، إذ إنها تفعلها عن طريق الإلهام المسمى الغريزة .
ولقد احتار العلماء فترة طويلة من الزمن في تفسير إمكان حياة مثل هذه الحشرات عن طريق الغذاء على الأخشاب ، والخشب لا يحتوي على أية مواد عضوية قابلة للهضم ، وأخيراً اكتشفوا السر .
لقد وجدوا في داخل الجهاز الهضمي لأفراد هذه الحشرات حيوانات دقيقة أولية يتكون جسمها من خلية واحدة ، وهذه الحيوانات الأولية تفرز أجسامها إفرازات تحول الخشب إلى مواد غذائية قابلة للهضم هي التي تغذي النمل الأبيض .
ومن العجيب أنّه لم يحدث إطلاقاً أن اكتشفت نملة بيضاء واحدة تخلو أمعاؤها من هذه الحيوانات الأولية ، ولو لم توجد هذه الحيوانات داخل أمعاء النمل الأبيض منذ بدء خلقها لما أمكنها الحياة ، ولانقرضت منذ أول جيل من أجيالها ، هل من الممكن أن يحدث هذا عن طريق المصادفة أم هو شيء مقدر مدبر مرسوم ؟ " .
النمل يربي المواشي ويفلح الأرض :
ومن عجائب النمل ما ذكره الدكتور يوسف عز الدين ، فقد ذكر أن النمل استأنس مئات من الأجناس من الحيوانات الأدنى منه شأناً ، بينما لم يستأنس الإنسان سوى نحو عشرين من الحيوانات الوحشية التي سخرها لمنفعته ومتعته ، ولقد عرف النمل الزرع والرعي عن طريق الغريزة .إنَّ حشرات المن التي يطلق عليها أحياناً ( قمل النبات ) التي نراها على أوراق بعض النبات يرعاها النمل ليستفيد منها . ففي الربيع الباكر يرسل النمل الرسل لتجمع له بيض هذا المن ، فإذا جاؤوا به وضعوه في مستعمراتهم حيث يضعون بيضهم ، ويهتمون ببيض هذه الحشرات كما يهتمون ببيضهم ، فإذا فقس بيض المن وخرجت منه الصغار أطعموها وأكرموها ، وبعد فترة قصيرة يأخذ المن يدر سائلاً حلواً كالعسل كما تدر البقرة اللبن ، ويتولى النمل حلب هذا المن للحصول على هذا السائل وكأنها أبقار .
ولا يعتني النمل بتربية ((المواشي)) هذه وحدها ، بل يعتني كذلك بالزرع وفلاحة الأرض ، لقد شاهد أحد العلماء في إحدى الغابات قطعة من الأرض قد نما بها أرز قصير من نوع نصف بري ، كانت مساحة القطعة خمسة أقدام طولاً في ثلاثة عرضاً ، وكان طول الأرز نحو ستة ((سنتيمترات)) ، ويتراءى للناظر إلى هذه البقعة من الأرض أنّ أحداً لا بد يعتني بها ، فالطينة حول الجذور كانت مشققة ، والأعشاب الغريبة كانت مستأصلة ، والغريب أنّه لم يكن على مقربة من هذا المكان عود آخر من الأرز ، فهذا الأرز لم ينم من تلقاء نفسه ، وإنّما زرعه زارع .ولوحظ أن طوائف النمل تأتي إلى هذا المزروع وتذهب عنه ، فانبطح العالم على الأرض يلاحظ ما يصنعه ، ولم يلبث أن عرف أنّ هذا النمل هو القائم بزراعة الأرز في تلك البقعة من الأرض ، وأنه اتخذ من زراعتها مهنة له ، تشغل كل وقته ، فبعضه كان يشق الأرض ويحرثها ، وبعض آخر كان يزيل الأعشاب الضارة ، فإذا ظهر عود من عشب غريب قام إليه بعض النمل ، فيقضمونه ، ثم يحملونه بعيداً عن المزرعة ...نما الأرز حتى بلغ طوله ستين سنتيمتراً ، وكانت حبوب الأرز قد نضجت ، فلما بدأ موسم الحصاد شاهد صفاً من شغالة النمل لا ينقطع متجهاً نحو العيدان ، فيتسلقها إلى أن يصل إلى حبوب الأرز ، فتنزع كل شغالة من النمل حبة من تلك الحبوب ، وتهبط بها سريعاً إلى الأرض ، ثم تذهب بها إلى مخازن تحت الأرض .بل الأعجب من ذلك أنّ طائفة من النّمل كانت تتسلق الأعواد ، فتلتقط الحب ، ثم تلقي به ، بينما طائفة أخرى تتلقاه ، وتذهب به إلى المخازن ..
ويعيش هذا النوع من النمل عيشة مدنية في بيوت كبيوتنا ذات شقق وطبقات ، أجزاء منها تحت الأرض ، وأجزاء فوق الأرض ، في هذه المدن نجد الخدم والعبيد .
بل الأعجب من ذلك نجد الممرضات اللاتي تعني بالمرضى ليلاً ونهاراً ، ونجد منها من يرفع جثث من يموت من النمل ....
يفعل ذلك النوع من النمل كلّ هذا بدون تفكير ، إذ يتم بالغريزة التي أودعها الله في أجسامهم الصغيرة .